📁 آخر الأخبار

أنا من تركت نفسي..مقال من الحياة اليومية لابانوب النقادى

 أنا من تركت نفسي..مقال من الحياة اليومية لابانوب النقادى

مقال للكاتب / ابانوب اسحاق يوسف

_ميدان الحلمية يسطا؟

_اتفضل يبشمهندس... أقفل الباب تاني كدا

نص الخمسينات، شعر خفيف راجع لورا، كرش متوسط و طبعاً سيجارة

شاب في بداية العشرينات، ملامح بسيطة لا هي حلوة ولا وحشة، و طبعاً مفيش سيجارة بس في حاجه تانية.. ممكن ليه لا

_"بيكح" انا مش هعدل عليك يا بابا بس بتشرب سجاير ليه

_ اتعودت عليها بعيد عنك و اهي بتخفف عن الواحد شوية،والحكاية بقي حالها يقرف "ادي سيجارة اتحرقت و واحدة تانية قربت تخلص"

_ليك كام سنة يبابا شغال؟ (في السواقة؟) اه

_ خمسة و عشرين سنة (طولة العمر ياحج) تشكر(مبسوط بالشغلانة دي؟) اهي بتقضي و الحمدالله الواحد عرف يجهز بنته قبل الغلي، انا كنت موظف في شركة و التاكسي دا كنت بخليه بعد الشغل "بيكح تاني" جت الكرونا و قعدتنا في البيت طبعا فالشركة مبقتش عارفة تصرف مرتبات و انا كان ليا كتير هناك فقالوا يطلعوا الي سنهم كبر زي حلاتي كدا، قعدوا مدة مش بيبعتوا حاجة و كانوا عايزين ينزلوني عامل عادي و انا كنت ريس علي عمال تانيين يأما كدا يأما يدوني مبلغ و خلاص علي كدا

_ طبعا حضرتك اخدت الفلوس

_ هو الواحد يعمل ايه يبني"نفس طويل من السيجارة الي مبقتش فاكر رقمها" عايزين راجل كبير يقف و يشتغل علي ايده و يهينوه في مكانه، في سنة كام يبني؟

_ ثانوية عامة(علمي؟) اه علمي علوم

_انا بنتي التانية في ثانوية كدا قدك لسه عايز اجهزها

_ و التاكسي يقضي يبابا؟

_ ربنا مبيسبش الواحد يبني (هناك كدا يبابا)

أنا من تركت نفسي..مقال من الحياة اليومية لابانوب النقادى
 أنا من تركت نفسي..مقال من الحياة اليومية لابانوب النقادى


أعلم تلك الروح الباردة  التي تتخلني في هذه اللحظة، هذا الزمهرير العميق، هناك جسد يرتعش، طفل علي وجه التحديد، إن كان الله لا يترك أحداً فلماذا انا ابكي؟ إن كانت السيجارة تدمر السائق و السائق يدمر السيجارة و الحياة تدمر كلاهما فكيف يكونون متفائلين، ماذا يدمرني؟ أهي الوحدة؟الصمت؟ ان لساني نادراً ما يغادر سقف حلقي لكني اعرف كيف ابتسم

أنا من تركت نفسي

أترنح بين الصفحات و الطرقات، عشت ما يكفيني،هنا و هناك، أجراس الشتاء،المطر، التراب الممزوج بالماء؛ربما دموع قديمة، ربما رجل يبتلع معضلة الوجود بشيء من الجزع الرواقي وحيداً يخرج إبتهالته، تلك التي لا تعود، علي الاقل ليس في اللحظة الراهنة، ربما هي تلك العجوز علي المقعد المتحرك، أمام المسجد، تضع أمام نظرها ما يمثل أخر أمل لها، ليس زوجها الراحل ولا طفلها الذي لا مستقبل له، بل فقط حقبة تجمع فيها ما يُجَودُ به عليها

ربما هي دموع فرح رجل بإبنته، ربما هي فرحة فتاة بموافقة أبيها علي الزواج بمن تحب، ربما هم مجموعة شباب يتسامرون و يبكون من فرط السذاجة النكات و الحياة، ربما هي دموعي و انا طفل، دموع دعواتي لحياة أفضل، هي ضحك، هي ألم، هي لحظة

هي مانعطيه علي الأرض و تمطر به السماوات علينا، هي الروح و الإختيار، ماذا نختار و لما و آلاف الأسئلة، أو هي مجرد شكوك، ما الشك؟ لغة الخوف و الهروب نقيض ان تتسامي و ان تختار لامنطقية الإجابة، بساطتها، روح طفولتها، قرار مؤلم سريع، لحظة من تشنج الزمن، لامنطقية الروح التي تأكد لك ان الحياة فيها ما يعاش من الجمال ليس لمجرد الجمال العنيف في مواجهة الموت بل في متعة أن تبتعد.. كثيراً..خارج اللحظة و في كل الإحتمالات و تعود حمامة نوح بغصن زيتون، غصن طمأنينة

أي طمأنينة؟ اتعني تلك الخطوة الصغيرة تحت أجراس الشتاء، ذلك الضباب، اللاشيء في مواجهة كل الأشياء، نزعتك للبقاء التي تحتم قرارات لا تستسيغها روحك، تلك الرؤية المفروضة عليك انك هنا و العالم هناك، انك انت و العالم تختلفان من الأساس، هذا العبث و إدراكته التي لا تزيد سوي أن تضللك، ام الإنطلاق من اللحظة و إختيار كل خطوة علي أساس من القوة الفردية او عدم الاهتمام و ان تقوم فقط بالاختيار

نفسي إذا هي من تركتني

اهو التمرد؟ علي العالم؟ علي ذاتك؟ هل التمرد هو الحل؟ تلك الفوضي؟ هل التمرد مواجهة أم بكاء أطفال؟ اذن هي تلك الرواقية لكن متشائمة قليلا، الا تعتقد ذلك معي، نعم لنبني عالماً مثالياً، لنبني علاقة لا نجاح لها ترسخ صوت صرخة، الرب غاضب و الطوفان قريب اذا فلنقف امامه بطوفان أكبر، لنحكم الأرض ألفي سنة أخري، لنجعل تقويماً جديدا لا يرتبط بالرب، لنسخر من كل الحكام، لنسخر من أنفسنا، لنكتب مقالات تنفد الرأسمالية و الشيوعية، لنتحدث فيما بيننا عن الأمل، لنقرأ لماركس و مواجهته للدولة فليكن صوت الشعب أي شعب؟ أي صوت؟، هيجل يبحر في المستحيل ليعود إلي أنه مستحيل لكنه جميل قاسٍ أينعم مدمر لكن مفتوح الأفق يبعث نسمة في الشراع لكي تكمل البحث، سبينوزا يلمس الرب او يلمس اللامعقول ليحني أمامه بإحترام يقف أمام هيكل سليمان ينزل يده كحكم قيصر و ها هي أعمدة الهيكل تنهار، لعازر قم و أمشِ، أيها الإنسان المريد ها هي كرامتك و ها هو الله

إبحار جميل في اللغويات و المعضلات، لكن هل سددت الديون؟ هل تحسن الإقتصاد؟ هل وجدت إجابتك؟ هل هي تحبك؟ هل الله يحبك؟ إلي متي تبحث؟ أيمكنك أن تقول من أنت؟ لا لا هي ليست نعم او لا، هي التسامي، ليست البحث، هي فقط تجريد اللحظة الراهنة، الإندفاع مع التيار الهاديء، إدراك أن الماء لا يريد أن يعكس الصورة، ولا أن الصورة و الذي يقدمها من شأنهم أن ينعكسوا علي الماء لكنها تحدث علي العموم

الموت مقابل الحياة، الإختيار مقابل الشك و الركود، معضلة أزلية، بدائية لكنها تحمل في طياتها كينونة فكرك لكن هل  هي تعرض نفسها علي العالم، اي هل يختار العالم اي منها؟ ايختارها كلها في لحظات متفرقة في اماكن عشوائية؟ هل يختار الكون من الأساس أم يظل نفسه صامتاً، مجلجلاً فقط يلوح بيده في الهواء ليكتشف الحياة، ليكتشف ذاته

ما الذي يمنعك من الإفلات؟ إلي ماذا ينتهي أي إختيار؟ بقعة مظلمة غارقة في الماء، لا ضوء فيها، لكنه هناك يلمع كلؤلؤة جسد صغير، تحاول السباحة إليه، إنفاسك قصيرة، ها أنت تنازع لكي تقف أمامه، يرتعش، يئن، يخاف، تمد يدك بكرة، قلبك، يبتسم، الحب بسيط، الحب صبور، أنت لا تجيد تربية الأطفال لكنك تجيد بالتأكيد اللعب بالكرة

بدأت الأرضية تتشبع الماء، القرميد يمرر الماء ببطء، أربعة حوائط الآن بلا نوافذ، سقف مكشوف علي سماء الليل، تلك النجوم، صوت الناي الخافت، ماذا يوجد وراء الجدار؟ مدية و قطعة قرميط أيهما تفضل لكي تخرج من أزمتك؟ أحفر الجدار أو ضع قرميد جديد يزيد من علو حائطك

الخيار الأخير غير معقول، نحن نبحث عن الخروج لكن هل نحن في الداخل؟ هل تخترق المدية الجدار أم تشوهه فقط؟ مم يتكون الجدار؟ يمكنك أن تطعن بالمدية لن امنعك، ها هو درويان يتقدم لينهي معاناته يطعن اللوحة لكي يسقط أرضاً

قطعة القرميد، الأمل الأخير، أضرب الجدار بها، يدك تمر في الجدار، تمر بجسدك لكنك لا تستطيع، تدخل رأسك في الجدار، انه ليس خليطاً من الرمل و الزلط و الأسمنت فقط بل تجتمع دقائقها لتكون خيوطاً تتشابك، تلتف حول بعضها و تتعقد، تتلون، تتفكك و تعيد الإرتباط من جديد، خيوط أكثر لامعاناً، أكثر سماكة أكثر ألواناً، كل الألوان، ألوان أنت تعرفها

الضوء الأحمر لفوانيس السيارات، الدم، هدايا عيد الحب، الضوء الأصفر للشمس و الدفيء، نوافذ الكنيسة، ذكريات الطفولة، الضوء البرتقالي للرمل المشع، محلات الملابس، الضوء الأزرق للمحيط الخافت، باصات النقل العام، جلدات كراسات مادة الرياضيات، الضوء الأخضر للنبات، زينة عيد رأس السنة، الهودي المفضل لي، الضوء السماوي للسماء بين السحب، الماء، بناطيل الجينز، الضوء البنفسجي لليلك، الرومانسية، السحر و الغموض، ملابس الأمراء في العصور الوسطى، الضوء الأبيض للسحب، علم الإستسلام الأبيض، رداء المسيح، الخفوت الأسود للموت،  الهدوء المفجع للكون، المجهول لكن لكي اميز أبعاد و حواف الأشياء أحتاج إلي الظلال

أنت تراها فما الذي يمنعك أن تري انعكاس نفسك في الجدار، انت تري الخيوط تناسب معها تشكلها تفتتن بها تحاول فهمها تتوقف قليلا عن الفهم و تقدر اللحظة تفهم ان فهمك قاصر لكن لا ضير فيه، ها انت خارج الجدار، لم يكن موجوداً من الأساس، هو فقط ضغف بصيرة، القليل من التفائل غير المنطقي امام التشاؤم العالمي، قصر نظر، انت تحت سماء الليل، امامك النجوم، الغابات و دهاليزها، فسحة من الفراغ يملؤها النور الفضي للقمر، معك ناي لتعزف، شياطين تتربص بين الاشجار، اعزف و ارقص، سيرقصون معك، الكون يتحرك، فسيح يشعرني بالرهبة، يذكرني بصغر حجمي فيتملكني الخشوع و الحماس لكي أري إتساعه أكثر

المحرر
المحرر
تعليقات